كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال واحتفظ هو سبحانه بملكية هذه الصفات، فإنْ شاء سلبها منك، فعليك أن تستغل الفرصة وتنتهز وجود هذه الخَصْلة عندك، فتُثمِّرها فيما أراده الله منك قبل أنْ تُسلَب، حتى إذا سُلِبَتْ منك نالتك من غيرك.
فتصدَّق وأنت غني لتنال صدقة الآخرين إنْ أصابك الفقر، وأكرم اليتيم لتجد مَنْ يُكرم يتيمك من بعدك، فإنْ قابلتَ أحداث الحياة بهذه النظرة اطمأنَّ قلبك، وأمِنْتَ من حوادث الزمن، واستقبلتَ الأحداث بالرضا، وكيف تهتم وأنت في مجتمع يرعاك كما رعيته، ويحملك كما حملته، ويتعاون معك كما تعاونتَ معه؟
وصدق الله تعالى حين قال: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].
إذن: الحق- تبارك وتعالى- يريد من خليفته في أرضه أن يكون جِماعًا لصفات الكمال التي تسعد الخَلْقَ بآثار الخالق فيهم، وهذه هي الخلافة الحقة.
وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات، نور القيم، نور التعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتصرف، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أنْ يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى؛ لأنه كما قال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] فلو لم تكُنْ هذه الشمس ما استطاع أحد أنْ يصنع لنفسه نورًا أبدًا.
فالحق- تبارك وتعالى- يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهرًا شريفًا كريمًا عزيزًا؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليمًا في وضح النهار؛ لينتج عن هذا اللقاء نَسْل طاهر جدير بخلافة الله في أرضه؛ لذلك أول ما تكلم الحق سبحانه في هذه السورة تكلَّم عن مسألة الزنى.
والعجيب أن تأتي هذه السورة بعد سورة المؤمنون التي قال الله في أولها {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] وهنا قال: {الزانية والزاني} [النور: 2] فجاء بالمقابل للذين هم لفروجهم حافظون.
نفهم من هذا أنه لا يلتقي رجل وامرأة إلا على نور من الله وهدى من شريعته الحكيمة؛ لأنه عز وجلَّ هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما يُصلحه، وهو خالق ذرّاته، ويعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض، وهو سبحانه خالق مَلَكات النفس، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر.
إذن: طبيعي أنْ أردتَ أن تنشيء خليفة في الكون على غير مراد الله وعلى غير مواصفات الحق، لابد أنْ يضطرب الكون وتتصارع فيه مَلكات النفس، وماذا تنتظر من هذا الخليفة إنْ جاء في الظلام؟ ساعتها تظهر أمراض النسل من وَأْد الأولاد وقتلهم حتى في بطون الأمهات، وقد يتشكّك الرجل في ولده، فيبغضه ويهمله ويتركه للتشرد.
إذن: لن تستقيم هذه المسألة إلا حين يأتي الخليفة وَفْق مواصفات ربه، وأنْ يلتقي الزوجان على ما شرع الله في وضح النهار، لا أن يندس كل منهما على الآخر في ظلمة الإثم، فيحدث المحظور الذي تختلط به الأنساب، ويتفكك رباط المجتمع.
إن من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشكَّ في نِسْبة ولده إليه، وأن تعتصره هذه الفكرة، فيهمل ولده وفلذة كبده، وينفق هنا وهناك ويحرمه على خلاف النسْل الطاهر، حيث يتلهف الأب لولده، ويجوع ليشبع، ويتعرّى ليلبس.
فالحق سبحانه يريد النسل المحضون بالأبوين في أُبوة صحيحة شرعية وأمومة صحيحة شرعية اجتمعا على نور الله.
ولك أنْ تُجري مقارنة بين امرأة حملتْ سفاحًا وأخرى حملتْ حَمْلًا شرعيًا طاهرًا، ستجد الأولى تحمله على مضض وكُرْه، وتودّ أنْ تتخلَّص منه وهو جنين في بطنها، فإنْ تحاملتْ على نفسها إلى حين ولادته تخلَّصتْ منه في ليلتها ولو بإلقائه على قارعة الطريق.
أما صاحبة الحمل الشرعي فتتلهف على الولد، وإنْ تأخر بعض الوقت صارت قلقة تدور بين الأطباء، فإنْ أكرمها الله بالحمل طارت به فرحًا وفخرًا، وحافظت عليه في مَشْيها وحركاتها ونومها وقيامها إلى حين الوضع، فتتحمل آلامه راضيةً ثم تحتضنه وتُرضِعه وتعيش حياتها في خدمته ورعايته.
فالله يريد أن يأتي خليفته في أرضه من إخصاب طاهر على اعْيُنِ الناس جميعًا وفي نور الله المعنوي، يريد للزوج أن يأتي من الباب في ضوء هذا النور، لا أن يتلصص في الظلام من باب الخدم.
لذلك يتوعد الحق- سبحانه وتعالى- مَنْ يخالف هذا المنهج ويريد أن يُفسِد شرف الخلافة التي يريدها الله طاهرة، ويُدنِّس النسل، ويُوغِر الصدور بالأحقاد والعداوات، ويزرع الشك في نفوس الخَلْق، وجرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشخصية إنما تتعدى هذه إلى الإضرار بالمجتمع كله.
وانظر إلى الإيدز الذي يهدد المجتمعات الآن، وهو ناتج عن الالتقاء غير الشرعي، وخطر الإيدز لا يقتصر على طرفيه إنما يتعدّاها إلى الغير، إذن: من صالح المجتمع كله أن نقيم حدَّ الزنا حتى لا يستشري هذا الداء.
ونعجب من هؤلاء الذين يهاجمون شَرْع الله في مسألة الحدود حين تقضي برَجْم الزاني المحْصَن حتى الموت، أَلاَ يعلم هؤلاء أننا نُضحِّي بواحد لنحفظ سلامة الملايين في صحة وعافية؟ أَلًا يروْنَ ما يحدث مثلًا في وباء الطاعون الذي أعجز العلماء حتى الآن، ولم يجدوا له علاجًا، وكيف أن الشرع أمرنا إنْ نزل الطاعون بأرض ألاَّ نذهب إليها، وأمر مَنْ فيها ألاَّ يخرجوا منها، لماذا؟ لنحصر هذا الوباء حتى لا يستشري بين الناس.
كذلك الحال في مسألة الزنا؛ لأن الزاني لا يقتصر شرُّه عليه وحده، إنما يتعدّى شرُّه إلى المجتمع كله، مع مراعاة أن الشرع فرَّق بين الزاني المحصن وغير المحصن، وكذلك الزانية، ففي حالة الإحصان تتعدد الماءات في المكان الواحد، لذلك سُئلنا في سان فرانسيسكو: لماذا أبحتم تعدُّد الزوجات، ولم تبيحوا تعدُّد الأزواج؟ هذا منهم على سبيل قياس الرجل على المرأة: لماذا لا تتزوج المرأة وتجمع بين أربعة رجال؟
قلت: اسألوهم، أليس عندهم أماكن يستريح فيها الشباب جنسيًا- يعني بيوت للدعارة- قالوا: نعم في بعض الولايات، قلت: فبماذا احتطتم لصحة المجتمع وسلامته؟ قالوا: نُجرِي عليهم كشفًا دوريًا كل أسبوع، قلت: وهل هذا الكشف الدوري يستوعب الجميع؟ أم أنه مجرد ششن وعينات عشوائية.
إذن: من الممكن أن يتسرّب المرض بين هؤلاء الشباب، وهَبْ أنك أجريتَ على إحداهن الكشف يوم الأحد مثلًا، وفي يوم الاثنين جاءها المرض، فإلى كم واحد سينتقل المرض إلى أنْ يأتي الأحد القادم؟ فهذه مسألة لا تستطيع السيطرة فيها على الداء.
ثم أتُجرون هذه الفحوصات على المتزوجين والمتزوجات؟ وهل اكتشفتم بينهم مثل هذه الأمراض؟ قالوا: لا لم يحدث أن اكتشفنا هذا بين المتزوجين. قلت: إذن كان عليكم أنْ تنتبهوا إلى سبب هذه الداءات، وأنها تأتي من تعدُّد ماءات الرجال في المكان الواحد؛ لأن كل ماء سياله وله ميكروبات تتصارع، إن اجتمعت في المكان الواحد فينشأ منها المرض.
لكن حين يكون للزوجة زوج واحد، فلن نرى مثل هذه الداءات في المجتمع، ومن هنا يأتي دور الوازع الديني، فإن فُقِد الوازع الديني فلابد من الوازع الحسيّ ليزجر مثل هؤلاء ويُوقِفهم عند حدود الله رَغْمًا عنهم، حتى وإنْ لم يكونوا يؤمنون بها.
إذن: هذه أقضية ومشاكل وداءات حدثتْ للناس بقدر ما أحدثوا من الفجور، وبقدر ما انتهكوا من حُرُمات الله، وانظر مثلًا لمن يُضطرّ للسفر إلى مثل هذه البلاد، كم يكون حَذرًا مُفزَّعًا حين يقيم مثلًا في فندق، فيأخذ أدواته الشخصية، ويخاف أن يستعمل أشياء غيره، ويحرص على نظافة المكان وتغيير الفراش قبل أن ينام عليه.. الخ كل هذه الاحتياطات.
فالشرع حين يأمر بقتل الزاني أو الزانية إنما فعل ذلك ليسْلَمَ المجتمع بأسْره، وكثيرًا ما نواجه مثل هذه الاعتراضات من أصحاب الرحمة الحمقاء والشعارات الجوفاء، أهُم أرحم بالخَلْق من الخالق؟
أَلاَ يروْن للزلزال أو لحوادث السيارات والطائرات التي تحصد الآلاف من الأرواح؟ فلماذا هي الضجة حين نبتر العضو المريض من المجتمع؟
قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] السورة: مأخوذة من سور البيت، وهي طائفة من نجوم القرآن أو آياته محوطة ببداية ونهاية، تحمل أحكامًا وقد تكون طويلة كسورة البقرة، أو قصيرة كالإخلاص والكوثر، فليس للسورة كمية مخصوصة؛ لأنها توقيفية.
{أَنزَلْنَاهَا} [النور: 1] نفهم من أنزل أن الإنزال من أعلى إلى مَنْ هو أدنى منه، كما يكتب الموظف مثلًا يريد التظلُّم لرئيسه: أرفع إليك كذا وكذا، فيقول الأعلى: وأنا أنزلت القرار الفلاني، فالأدنى يرفع للأعلى، والأعلى يُنزِل للأدنى.
لذلك يقول تعالى: {أنزلنا} حتى للشيء الذي لا ينزل من السماء، كما قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] فالحديد وإنْ كان مصدره الأرض، إلا أنه لا يكون إلا بقدرة الأعلى سبحانه.
{وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] الشيء المفروض يعني الواجب أن يُعمل؛ لأن المشرِّع قاله وحكم به وقدَّره، ومنه قوله سبحانه: {فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي: نصف ما قدَّرتم، إذن: كل شيء له حُكْم في الشرع، فإن الله تعالى مُقدِّره تقديرًا حكيمًا على قَدْره.
وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] الآيات الواضحات، وتُطلق الآيات- كما قلنا- على الآيات الكونية التي تلفت أنظارنا إلى قدرة الله وبديع صُنْعه، وتُطلق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسل، وتُطلق على آيات القرآن الحاملة للأحكام.
وفي هذه السورة كثير من الأحكام إلى أن قال فيها الحق سبحانه: {الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35] وقال: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] فطالما أنكم أخذتُم نور الدنيا، وأقررتُم أنه الأحسن، وأنه إذا ظهر ألغى جميع أنواركم، فكذلك خذوا نور التشريع واعملوا به واعلموا أنه نور على نور. إذن: لديكم من الله نوران: نور حسي ونور معنوي.
{لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1] بعد أنْ قال سبحانه أنزلت كذا وكذا أراد أنْ يُلهب المشاعر لتُستقبل آياته الاستقبال الحسن، وتُطبِّق أحكامه التطبيق الأمثل يقول: أنزلتُ إليكم كذا لعلكم تذكرون، ففيها حَثٌّ وإلهابٌ لنستفيد بتشريع الحق للخَلْق.
ثم يتحدث الحق سبحانه عن أول قضية فيما فرضه على عبادة: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}.
قلنا: إن الحق سبحانه تناول هذه المسألة حرصًا على سلامة النشء، وطهارة هذا الإنسان الذي جعله الله خليفة له في الأرض، وحين نتأمل السياق القرآني في هذه الآية نجد أن كلمة الزاني تدل على كُلٍّ من الأنثى والذكر، ففي اللغة الاسم الموصول: الذي للمفرد المذكر، والتي للمفردة المؤنثة، واللذان للمثنى المذكر، واللتان للمثنى المؤنث، والذين لجمع الذكور، واللائي لجمع الإناث.
لكن هناك أسماء تدل على كل هذه الصيغ مثل: مَنْ، ما، ال.
تقول: جاء مَنْ أكرمني، وجاءت من أكرمتني، وجاء من أكرموني.
فكذلك ال في {الزاني} تدل على المؤنث وعلى المذكر، لكن الحق سبحانه ذكرهما صراحةً ليُزيلَ ما قد يحدث عند البعض من خلاف: أيهما السبب في هذه الجريمة، هذا الخلاف الذي وقع فيه حتى الأئمة والفقهاء، فهناك مَنْ يقول: الزاني واطئ وفاعل، والمرأة موطوءة، فالفعل للرجل لا للمرأة، فهو وحده الذي يتحمل هذه التبعة.
لذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه يحكي أن رجلًا ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله وطئت امرأتي في رمضان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كَفِّر».
وأخذ الشافعي من هذا الحديث أن الكفارة إنما تكون على الرجل دون المرأة، وإلا لقال له الرسول: كَفِّرا.
لكن يجب أن نفرق بين وطِئ وجامع: الوَطْءُ فعل الرجل حتى وإن كانت الزوجة كارهة رافضة، أمَّا الجماع فهو حال الرضا والقبول من الطرفين، وفي هذه الحالة تكون الكفارة عليهما معًا؛ لذلك صرَّح الحق تبارك وتعالى بالزاني والزانية ليزيل هذه الشُّبهة وهذا الخلاف.